فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
{كيف} نصب بفعل والجمهور على أنه فيل واحد، وقال الضحاك: ثمانية، فهو اسم الجنس وقوله مردود، وحكى النقاش: ثلاثة عشر، وهذه السورة تنبيه على الاعتبار في أخذ الله تعالى لأبرهة ملك الحبشة ولجيشه حين أم به الكعبة ليهدمها، وكان صاحب فيل يركبه، وقصته مشروحة في السير الطويلة، واختصاره أنه بنى في اليمن بيتًا وأراد أن يرد إليه حج العرب، فذهب أعرابي فأحدث في البيت الذي بنى أبرهة فغضب لذلك واحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة، وغلب من تعرضه في طريقه من قبائل العرب، فلما وصل ظاهر مكة وفر عبد المطلب وقريش إلى الجبال والشعاب، وأسلموا له البلد وغلب طغيانه، ولم يكن للبيت من البشر من يعصمه ويقوم دونه، جاءت قدرة الواحد القهار وأخذ العزيز المقتدر، فأصبح أبرهة ليدخل مكة ويهدم الكعبة فبرك فيله بذي الغميس ولم يتوجه قبل مكة فبضعوه بالحديد فلم يمش إلى ناحية مكة وكان إذا وجهوه إلى غيرها هرول، فبينا هم كذلك في أمر الفيل بعث الله {عليهم طيرًا} جماعات جماعات سودًا من البحر وقيل خضرًا، عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقارة ورجليه وكل حجر فوق العدسة ودون الحمصة فرمتهم بتلك الحجارة، فكان الحجر منها يقتل المرمي وتتهرى لحومهم جذريًا، وأسقامًا، فانصرف أبرهة بمن معه يريد اليمن فماتوا في طريقهم متفرقين في كل مرحلة، وتقطع أبرهة أنملة أنملة حتى مات وحمى الله بيته المرفع، فنزلت الآية منبهة على الاعتبار بهذه القصة، ليعلم الكل أن الأمر كله لله، ويستسلموا للإله الذي ظهرت في ذلك قدرته، حين لم تغن الأصنام شيئًا ف {أصحاب الفيل}: أبرهة الملك ورجاله.
وقرأ أبو عبد الرحمن: {ألم ترْ} بسكون الراء، و(التضليل) الخسار والتلف، و(الأبابيل): جماعات تجيء شيئًا بعد شيء، قال أبوعبيدة: لا واحد له من لفظه وهذا هو الصحيح لا ما تكلفه بعض النحاة وقال معبد بن أبي معبد الخزاعي: البسيط:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ** إذ سارت الأرض بالجرد الأبابيل

وقد تقدم تفسير {حجارة السجيل} غير مرة، وهي من سنج وكل أي ماء وطين، كأنها الآجر ونحوه مما طبخ، وهي المسومة عند الله تعالى للكفرة الظالمين، و(العصف): ورق الحنطة وتبنه ومنه قول علقمة بن عبدة: البسيط:
تسقى مذانب قد مالت عصيفتها ** حدورها من أتيّ الماء مطموم

. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)}
قوله تعالى: {ألم تر} فيه قولان:
أحدهما: ألم تُخْبَرْ، قاله الفراء.
والثاني: ألم تَعْلَم، قاله الزجاج.
ومعنى الكلام معنى التعجب.
وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة.
وفي سبب قصدهم لذلك قولان:
أحدهما: أن أبرهة بني بيعةً وقال: لست منتهيًا حتى أضيف إليها حَجَّ العرب، فسمع بذلك رجل من بني كنانة، فخرج، فدخلها ليلًا، فأحدث فيها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف ليسيرنَّ إلى الكعبة فيهدِمَها، قاله ابن عباس.
والثاني: أن قومًا من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النجاشي فنزلوا في جنب بِيعَةٍ، فأوقدوا نارًا، وشَوَوْا لحمًا، فلما رَحَلُوا هَبَّت الرِّيح، فاضطرم المكان نارًا، فغضب النجاشي لأجل البِيَعة، فقال له كبراء أصحابه- منهم حجر بن شراحيل، وأبو يكسوم: لا تحزن، فنحن نَهدِم الكعبة، قاله مقاتل.
وقال ابن اسحاق: أبو يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم.
وقيل: وزيره، وحِجْر من قُوَّادِه.
ذكر الإشارة إلى القصة:
ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدِمها خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نَعَم الناس، فأصابوا إبلًا لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: سل عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدِم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقيَ عبد المطلب بن هاشم، فقال إن الملك أرسلني إليك لأخبركَ أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته وحرمه، وإن يخلِّ بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا به قوة.
قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتي أن يردَّ على مائتي بعير أصابها.
فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، جئت إلى بيت هو دينك لأهدمه، فلم تكلِّمني فيه، وكلَّمتني لإبل أصبتُها.
فقال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت رَبُّ سيمنعه.
فأمر بإبله فَرُدَّت عليه، فخرج، فأخبر قريشًا، وأمرهم أن يتفرَّقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفًا من مَعَرَّة الجيشاذا دخل، ففعلوا، فأتى عبد المطلب الكعبة، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول:
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لهم سِوَاكَا ** يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا

إنَّ عَدُوَّ البيت مَنْ عَادَاكا ** إمْنَعْهُمُ أن يُخْرِبُوا قرأكا

وقال أيضًا:
لاَ هُمَّ إنَّ المرْءَ يَمْ ** نُع رَحْلَه فامنع حِلاَلَكْ

لاَ يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ ** وَمِحَالُهم غَدْوًا مِحَالَكْ

جَرُّوا جميعَ بلادهم ** والفيلَ كي يَسْبُوا عِيَالَكْ

عَمِدُوا حِمَاك بكيدِهم ** جهلًا وما رَقَبُوا جَلاَلَكْ

إنْ كنتَ تاركهم وكَعْ ** تَنَا فَأمر مَا بَدَالَكْ

ثم إن أبرهة أصبح متهيئًا للدخول، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه، فأبى، فوجَّهوه إلى اليمن راجعًا، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجَّهوه إلى الحرم، فأبى، فأرسل الله طيرًا من البحر.
واختلفوا في صفتها، فقال ابن عباس: كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب.
وقال عكرمة: كانت لها رؤوس كرؤوس السباع.
وقال ابن إسحاق: كانت أمثال الخطاطيف.
واختلفوا في ألوانِها على ثلاثة أقوال.
أحدها: أنها كانت خضراء، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير.
والثاني: سوداء، قاله عبيد بن عمير.
والثالث: بيضاء، قاله قتادة.
قال: وكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حَجَرانِ في رجليه، وحجر في منقاره.
واختلفوا في صفة الحجارة فقال بعضهم: كانت كأمثال الحمص والعدس.
وقال عبيد بن عمير: بل كان الحجر كرأس الرجل والجمل، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك.
وكان الحجر يقع على رأس الرجل، فيخرج من دبره.
وقيل: كان على كل حجر اسم الذي وقع عليه، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فتساقطت أنامله، وانصدع صدره قطعتين عن قلبه، فهلك، ورأى أهل مكة الطير وقد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غريبة.
ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم، فرجع يركض ويقول: هلك القوم جميعًا، فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم.
وقيل: لم ينج من القوم إلا أبو يكسوم، فسار، وطائر يطير من فوقه، ولا يشعر به حتى دخل على النجاشي، فأخبره بما أصاب القوم، فلما أتم كلامه رماه الطائر فمات، فأرى الله تعالى النجاشي كيف كان هلاك أصحابه.
واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين هذه القصة على ثلاثة أقوال.
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وهو الأصح.
والثاني: كان بينهما ثلاث وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أربعون سنة، حكاه مقاتل.
قوله تعالى: {ألم يجعل كيدهم} وهو ما أرادوا من تخريب الكعبة {في تضليل} أي: في ذهاب.
والمعنى: أن كيدهم ضَلَّ عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم {وأرسل عليهم طيرًا أبابيل}.
وفي (الأبابيل) خمسة أقوال.
أحدهما: أنها المتفرِّقة من هاهنا وهاهنا، قاله ابن مسعود، والأخفش.
والثاني: أنها المتتابعة التي يتبع بعضها بعضًا، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل.
والثالث: الكثيرة، قاله الحسن، وطاووس.
والرابع: أنها الجمع بعد الجمع، قاله عطاء، وأبو صالح، وكذلك قال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج، (الأبابيل): جماعات في تفرقة.
والخامس: المختلفة الألوان، قاله زيد بن أسلم.
قال الفراء، وأبو عبيدة: (الأبابيل) لا واحد لها.
قوله تعالى: {ترميهم} قرأ أبو عبد الرحمن السلمي {يرميهم} بالياء. وقد بينا معنى (سجِّيل) في [هود: 82] ومعنى (العصف) في سورة [الرحمن: 12] عز وجل، وفي معنى {مأكول} ثلاثة أقوال.
أحدهما: أن يكون أراد أنه أُخذ ما فيه من الحب فأكل، وبقي هو لا حب فيه.
والثاني: أن يكون أراد أن العصف مأكول البهائم، كما يقال للحنطة: هذا المأكول ولمَّا يؤكل.
وللماء: هذا المشروب ولمَّا يشرب.
يريد أنهما مما يؤكل ويشرب، ذكرهما ابن قتيبة.
والثالث: أن المأكول هاهنا: الذي وقع فيه الأُكال.
فالمعنى: جعلهم كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل: أي: وقع فيه الأُكال، قاله الزجاج. اهـ.

.قال القرطبي:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} أي ألم تُخْبَر.
وقيل: أَلَمْ تَعْلَم.
وقال ابن عباس: أَلَمْ تسمع؟ واللفظ استفهام، والمعنى تقرير.
والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه عام؛ أي ألم تَرَوْا ما فعلتُ بأَصْحَابِ الفيل؛ أي قد رأيتم ذلك، وعرفتم موضع مِنَّتِي عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟ و{كَيْفَ} في موضع نصب بـ: {فَعَلَ رَبُّك} لا بـ: {ألم تر كيف} من معنى الاستفهام.
الثانية: قوله تعالى: {بِأَصْحَابِ الفيل} الفيل معروف، والجمع أفيال: وفُيول، وفِيَلَة.
قال ابن السكيت: ولا تقل أفيلة. والأنثى فِيلة وصاحبه فَيَّال.
قال سيبويه: يجوز أن يكون أصل فِيل فُعْلًا، فكُسِر من أجل الياء؛ كما قالوا: أبيض وبِيض، وقال الأخفش: هذا لا يكون في الواحد، إنما يكون في الجمع، ورجل فِيل الرأي، أي ضعيف الرأي، والجمع أفيال، ورجل فال؛ أي ضعيف الرأي، مخطئ الفِراسة.
وقد فال الرأي يَفِيل فُيولة، وفَيَّل رأيه تفِييلًا: أي ضعفه، فهو فَيِّل الرأي.
الثالثة: في قصة أصحاب الفيل؛ وذلك أن (أَبرهة) بنى القُلَّيس بصنعاء، وهي كنيسة لم يُرَ مِثلها في زمانها بشيء من الأرض، وكان نصرانيًا، ثم كتب إلى النجاشيّ: إني قد بنيت لك أيها الملِك كنيسة لم يُبْن مثلها لملِك كان قبلك، ولست بمنتهٍ حتى أصرِف إليها حج العرب فلما تحدّثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشيّ، غضب رجل من النَّسَأة، فخرج حتى أتى الكنيسة، فقعد فيها أي أحدث ثم خرج فلحِق بأرضه فأُخْبِر بذلك أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت، الذي تحج إليه العرب بمكة، لما سمِع قولك: (أَصْرِف إليها حَجَّ العرب) غضب، فجاء فقعد فيها. أي أنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسِيَرنّ إلى البيت حتى يهدِمه، وبعث رجلًا كان عنده إلى بني كِنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة؛ فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل؛ فزاد أبرهةَ ذلك غضبًا وحَنَقًا؛ ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل؛ وسمعت بذلك العرب، فأعظموه وفَظِعوا به، ورأوا جهاده حقًا عليهم، حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة، وجهاده عن بيت الله الحرام، وما يريد من هدمه وإخرابه؛ فأجابه من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزِم ذو نفر وأصحابه، وأخِذ له ذو نفر فأُتِي به أسيرًا؛ فلما أراد قتله قال له ذو نَفْر: أيها الملك لا تقتلني، فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرًا لك من قتلي؛ فتركه من القتل، وحبسه عنده في وَثاق، وكان أبرهة رجلًا حليمًا.
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك، يريد ما خرج له، حتى إذا كان بأرض خَثْعَمَ عرض له نُفَيل بن حبيب الخَثْعَمِيّ في قبيلتي خثعم: شَهران وناهِس، ومن تبعه من قبائل العرب؛ فقاتله فهزمه أبرهة، وأُخِذ له نُفيل أسيرًا؛ فأُتِي به، فلما همّ بقتله قال له نُفَيل: أيها الملك لا تقتلني، فإني دليلك بأرض العرب، وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم: شهران وناهِس، بالسمع والطاعة؛ فخلى سبيله.
وخرج به معه يدله، حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتِّب في رجال من ثقيف، فقالوا له: أيها الملك، إنما نحن عبيدك؛ سامعون لك مطيعون، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يَدُلُّك عليه؛ فتجاوز عنهم.
وبعثوا معه أبا رِغال، حتى أنزله المغمِّس فلما أنزله به مات أبو رِغال هناك، فَرجَمت قبره العرب؛ فهو القبر الذي يرجُم الناسُ بالمغمس، وفيه يقول الشاعر:
وأرجُمُ قَبرَه في كل عامٍ ** كرجْم الناس قبر أبي رِغالِ

فلما نزل أبرهة بالمغمس، بعث رجلًا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له، حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها؛ فهمَّت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله؛ ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة حُناطة الحِميرِيّ إلى مكة، وقال له: سل عن سيد هذا البلد وشرِيفهم، ثم قل له: إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تَعْرضوا لي بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم؛ فإن هو لم يُرِد حربي فأتني به.
فلما دخل حُناطة مكة، سأل عن سيد قريش وشريفها؛ فقيل له: عبد المطلب بن هاشم؛ فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة؛ فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، أو كما قال، فإن يمنعه منه فهو حرمه وبيته، وإن يحل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه.
فقال له حُناطة: فانطلِق إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك؛ فانطلق معه عبد المطلب، ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر؛ فسأل عن ذي نَفْر، وكان صديقًا له، حتى دخل عليه وهو في مَحْبِسه، فقال له: يا ذا نفْر، هل عندك من غَناء فيما نزل بنا؟ فقال له ذو نفْر؛ وما غَناء رجل أسير بيدي ملِك، ينتظر أن يقتله غُدُوًّا وعَشِيا! ما عندي غَناء في شيء مما نزل بك، إلا أنّ أُنيْسًا سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه، وأوصِيه بك، وأُعْظِم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلِّمَه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير إن قَدَر على ذلك؛ فقال حسبِي.
فبعث ذو نَفْر إلى أنَيس، فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش، وصاحب عَيْن مكة، ويطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فاسْتَأْذنْ له عليه، وانفعه عنده بما استطعت؛ فقال: أَفْعَلُ.
فكلم أُنيس أبرهة، فقال له: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك، يستأذن عليك، وهو صاحب عَيْن مكة، يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال؛ فأْذَنْ له عليك، فيكلمَك في حاجته.
قال: فأذن له أبرهة.
وكان عبد المطلب أَوسم الناس، وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أَجَلَّه، وأعظمه عن أن يجلسه تحته؛ فنزل أبرهة عن سريره، فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه.
ثم قال لتَرجمانه: قل له: حاجَتك؟ فقال له ذلك الترجمان، فقال: حاجتي أن يردّ على الملك مائتي بعير أصابها لي.
فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنتَ أعجبتَني حين رأيتك، ثم قد زهِدْتُ فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتُها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئتُ لهدمه؟ لا تكلمني فيه!.
قال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإنّ للبيت ربًا سيمنعه.
قال: ما كان ليمتنع مني! قال أنت وذاك.
فردّ عليه إبله.
وانصرف عبد المطلب إلى قريش، فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة والتحرّز في شَعَف الجبال والشِّعاب، تخوفًا عليهم مَعرّة الجيش.
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلْقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْ ** نعُ رَحْلَهُ فامنعْ حِلالكْ

لا يَغْلِبَن صَلِيبُهُمْ ** ومِحالُهُمْ عَدْوًا مِحالَكْ

إنْ يَدْخلوا البلد الحرا ** مَ فأمر ما بَدَالَكْ

يقول: أي: شيء ما بدالك، لم تكن تفعله بنا.
والحِلال: جمع حِلّ.
والمِحال: القوّة.
وقيل: إن عبد المطلب لما أخذ بحلقة باب الكعبة قال:
يا رَبِّ لا أرجُو لَهمْ سِواكا ** يا ربِّ فامنعْ منهُم حِماكا

إنّ عدوَّ البيت مَنْ عاداكا ** إنهُم لن يقهروا قُواكا

وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي:
لا هُمَّ أخْزِ الأسودَ بن مقصود ** الأخِذَ الهَجْمَةَ فيها التَّقْلِيدْ

بين حِراءٍ وثَبِيرٍ فالبِيدْ ** يحبسها وهي أولات التطريدْ

فضمها إلى طَماطِمٍ سُودْ ** قَدْ أَجْمَعُوا أَلاَّ يكون مَعْبُودْ

ويهدموا البيتَ الحرامَ المَعْمُودْ ** والمرْوَتَيْنِ والْمَشَاعرَ السُّود

أخفِره يا رب وأنت محمود

قال ابن إسحاق: ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شَعَف الجبال، فتحرّزوا فيها، ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها.
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبأ جيشه، وكان اسم الفيل محمودًا، وأبرهة مجمع لهدم البيت، ثم الانصراف إلى اليمن.
فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نُفَيْل بن حبيب، حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأُذنه فقال له: ابرك محمود، وارجع راشدًا من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل، وخرج نُفَيل ابن حبيب يشتدّ، حتى أصعد في الجبل، وضربوا الفيل ليقوم فأبى، فضربوا في رأسه بالطبرزِين ليقوم فأبى؛ فأدخلوا محاجِن لهم في مراقه، فبزغوه بها ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يُهَروِل، ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق، ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر، أمثال الخطاطيف والبَلَسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار: حجر في مِنقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحِمَّص والعَدَس، لا تصيب منهم أحدا إلا هلك؛ وليس كلّهم أصابتْ.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي جاؤوا منها، ويسألون عن نفيل بن حبيب، ليدلهم على الطريق إلى اليمن. فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أَيْنَ المَفَرُّ والإلَهُ الطَّالبْ ** والأَشْرَمُ المغلوبُ ليسَ الغالبْ

وقال أيضًا:
حمِدتُ الله إذ أبصرتُ طَيْرًا ** وخِفت حِجارَة تُلْقَى علينا

فكلُّ القومِ يسأل عن نُفَيلٍ ** كَأَنَّ على لِلْحُبْشان دَيْنا

فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلِكون بكل مَهْلِك على كل سَهْل، وأصيب أَبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أَنْمُلَةً أنملة، كلما سقطت منه أنملة أتبعتها منه مِدّةً تمث قيحًا ودمًا؛ حتى قدِموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه؛ فيما يزعمون.
وقال الكلبي ومقاتل بن سليمان يزيد أحدهما وينقص: سبب الفيل ما رُوي أن فِتْية من قريش خرجوا تجارًا إلى أرض النجاشيّ، فنزلوا على ساحل البحر إلى بِيعة للنصارى، تسميها النصارى الهَيْكل، فأوقدوا نارًا لطعامهم وتركوها وارتحلوا؛ فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البِيعة نارًا، فاحترقت؛ فأتى الصرِيخ إلى النجاشي فأخبره، فاستشاط غضبًا. فأتاه أبرهة بن الصَّبَّاح وحُجْر بن شُرَحْبيلَ وأبو يَكْسومَ الكِنْديون؛ وضمنوا له إحراق الكعبة وسَبْي مكة. وكان النجاشيّ هو الملك، وأبرهةُ صاحب الجيش، وأبو يكسوم نديم الملك، وقيل وزيره، وحُجْر بن شُرَحبيل من قوّاده.
وقال مجاهد: أبو يكسوم هو أبرهة ابن الصباح.
فساروا ومعهم الفيل.
قال الأكثرون: هو فيل واحد.
وقال الضحاك: هي ثمانية فِيَلَة. ونزلوا بذي المَجاز، واستاقوا سَرْح مكة، وفيها إبل عبد المطلب. وأتى الراعي نذيرًا، فصعد الصفا، فصاح: واصباحاه! ثم أخبر الناس بمجيء الجيش والفيل. فخرج عبد المطلب، وتوجه إلى أبرهة، وسأله في إبله. واختُلِف في النجاشيّ، هل كان معهم؛ فقال قوم كان معهم.
وقال الأكثرون: لم يكن معهم. ونظر أهل مكة بالطير قد أقبلت من ناحية البحر؛ فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غريبة بأرضنا، وما هي بنَجدية ولا تِهامية ولا حجازية. وإنها أشباه اليعاسيب. وكان في مناقيرها وأرجلها حجارة؛ فلما أطلت على القوم ألقتها عليهم، حتى هلكوا.
قال عطاء بن أبي رباح: جاءت الطير عشية؛ فباتت، ثم صبحتهم بالغداة فرمتهم.
وقال الكلبيّ: في مناقيرها حصًى كحصى الخَذْف، أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المِنقار، أسود الرأس، طويل العنق.
فلما جاءت عسكر القوم وتوافت، أهالت ما في مناقيرها على من تحتها، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه المقتول به.
وقيل: كان على كل حجر مكتوب: من أطاع الله نجا، ومن عصاه غَوَى.
ثم انصاعت راجعة من حيث جاءت.
وقال العَوفيّ: سألت عنها أبا سعيد الخدرِي، فقال: حمام مكة منها.
وقيل: كان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها، ويقع في دِماغه، ويخرق الفيلَ والدابة.
ويغيب الحجر في الأرض من شدّة وقعه.
وكان أصحاب الفيل ستين ألفًا، لم يرجع منهم أحد إلا أميرهم، رجع ومعه شِرذمة لطيفة.
فلما أخبروا بما رأوا هلكوا.
وقال الواقديّ: أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبرهة هو الأشرم، سمي بذلك لأنه تفاتن مع أرياط، حتى تزاحفا، ثم اتفقا على أن يلتقيا بشخصيهما، فمن غَلَب فله الأمر.
فتبارزا وكان أَرْياطُ جسيمًا عظيمًا، في يده حربة، وأبرهة قصيرًا حادِرًا، حليمًا ذا دين في النصرانية، ومع أبرهة وزير له يقال له عِتْوَدَة فلما دنوا ضرب أرياط بحربته رأس أبرهة، فوقعت على جبينه، فشرمت عينه وأنفه وجبِينه وشفته؛ فلذلك سُمِّي الأشرم.
وحمل عِتْودة على أرياط فقتله.
فاجتمعت الحبشة لأبرهة؛ فغضب النجاشيّ، وحلف ليَجُزَّنَّ ناصية أبرهة، ويطأن بلاده.
فجز أبرهة ناصيته وملأ مِزودًا من تراب أرضه، وبعث بهما إلى النجاشيّ، وقال: إنما كان عبدَك، وأنا عبدُك، وأنا أقْوَمُ بأمر الحبشة، وقد جززت ناصيتي، وبعثت إليك بتراب أرضي، لتطأه وتبرّ في يمينك؛ فرضي عنه النجاشيّ.
ثم بنى أبرهة كنيسة بصنعاء، ليصرف إليها حج العرب؛ على ما تقدّم.
الرابعة: قال مقاتل: كان عام الفيل قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة.
وقال الكلبي وعُبيد بن عمير: كان قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة.
والصحيح ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولدت عام الفِيل» وروي عنه أنه قال: «يومَ الفيل» حكاه الماوردِيّ في التفسير له.
وقال في كتاب أعلام النبوّة: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل، وكان بعد الفيل بخمسين يومًا.
ووافق من شهور الروم العشرين من أسباط، في السنة الثانية عشرة من ملك هُرْمُز بن أنوشِروان.
قال: وحكى أبو جعفر الطبريّ أن مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان.
وقد قيل: إنه عليه السلام حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرّم، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان؛ فكانت مدّة حمله ثمانية أشهر كَمَلًا ويومين من التاسع.
وقيل: إنه ولد يوم عاشوراء من شهر المحرم؛ حكاه ابن شاهين أبو حفص، في فضائل يوم عاشوراء له.
ابن العربيّ: قال ابن وهب عن مالك: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وقال قيس بن مَخْرمة: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل. وقد روى الناس عن مالك أنه قال: من مروءة الرجل ألاَّ يُخْبِر بسنه؛ لأنه إن كان صغيرًا استحقروه وإن كان كبيرًا استهرموه.
وهذا قول ضعيف؛ لأن مالكًا لا يخبر بسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكتم سِنه؛ وهو من أعظم العلماء قدوةً به. فلا بأس بأن يخبر الرجل بسنه كان كبيرًا أو صغيرًا.
وقال عبد الملك بن مروان لعتاب بن أَسِيد: أنت أكبر أم النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسنّ منه؛ ولد النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مُقْعدين يستطعمان الناس، وقيل لبعض القضاة: كم سنك؟ قال: سنّ عَتَّاب بن أَسِيد حين ولاه النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة؛ وكان سنه يومئذٍ دون العشرين.
الخامسة: قال علماؤنا: كانت قصة الفِيل فيما بعدُ من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قبله وقبل التحدّي؛ لأنها كانت توكيدًا لأمره، وتمهيدًا لشأنه.
ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السورة، كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة؛ ولهذا قال: {ألم تر}. ولم يكن بمكة أحد إلا وقد رأى قائد الفيل وسائقه أعميين يتكففان الناس.
وقالت عائشة رضي الله عنها مع حداثة سنها: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس.
وقال أبو صالح: رأيت في بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب نحوًا من قفيزين من تلك الحجارة، سودًا مخططة بحمرة.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}
أي في إبطال وتضييع؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قُريشًا بالقتل والسبي، والبيت بالتخريب والهدم.
فحُكِي عن عبد المطلب أنه بعث ابنه عبد الله على فرس له، ينظر ما لَقُوا من تلك الطير، فإذا القوم مُشَدَّخين جميعًا، فرجع يركض فرسه، كاشفًا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال: إن ابني هذا أفرس العرب، وما كشف عن فخذه إلا بشيرًا أو نذيرًا.
فلما دنا من ناديهم بحيث يُسْمِعهم الصوت، قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعًا. فخرج عبد المطلب وأصحابه، فأخذوا أموالهم. وكانت أموال بني عبد المطلب منها، وبها تكاملت رياسة عبد المطلب؛ لأنه احتمل ما شاء من صفراء وبيضاء، ثم خرج أهل مكة بعده ونهبوا.
وقيل: إن عبد المطلب حفر حفرتين فملأهما من الذهب والجوهر، ثم قال لأبي مسعود الثقفيّ وكان خليلًا لعبد المطلب: اختر أيهما شئت.
ثم أصاب الناس من أموالهم حتى ضاقوا ذرعًا، فقال عبد المطلب عند ذلك:
أنتَ مَنَعْت الحُبْش والأفيالا ** وقد رَعَوْا بمكة الأجبالا

وقد خشِينا منهمُ القتالا ** وكلَّ أمر لهم مِعضالا

شكرًا وحمدًا لك ذا الجلالا

قال ابن إسحاق: ولما ردّ الله الحَبَشة عن مكة عَظَّمت العرب قريشًا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم، وكفاهم مؤونة عدوّهم.
وقال عبد الله بن عمرو بن مخزوم، في قصة أصحاب الفيل:
أنت الجليلُ ربَّنَا لم تدنِس ** أنت حبستَ الفِيل بالمُغَمِّسِ

من بعد ما هَمَّ بشرٍّ مُبْلِس ** حبسته في هيئة المُكَرْكَسِ

وما لهم من فرج ومنفسِ

والمكركس: المنكوس المطروح.
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
قال سعيد بن جبير: كانت طيرًا من السماء لم يُرَ قبلها ولا بعدها مثلها.
وروى جويبِر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها طير بين السماء والأرض تُعَشِّشُ وتُفَرِّخ» وعن ابن عباس: كانت لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وقال عِكرمة: كانت طيرًا خُضْرًا، خرجت من البحر، لها رؤوس كرؤوس السباع. ولم تُر قبل ذلك ولا بعده. وقالت عائشة رضي الله عنها: هي أشبه شيء بالخطاطيف.
وقيل: بل كانت أشباه الوطاويط، حمراء وسوداء.
وعن سعيد بن جبير أيضًا: هي طير خُضْر لها مناقير صُفْر.
وقيل: كانت بِيضًا.
وقال محمد بن كعب: هي طير سود بحرية، في مناقيرها وأظفارها الحجارة.
وقيل: إنها العنقاء المُغْرِب التي تضرب بها الأمثال؛ قال عِكرمة: {أبابِيل} أي مجتمعة.
وقيل: متتابعة، بعضها في إثر بعض؛ قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل مختلفة متفرّقة، تجيء من كل ناحية، من هاهنا وهاهنا؛ قاله ابن مسعود وابن زيد والأخفش.
قال النحاس: وهذه الأقوال متفقة، وحقيقة المعنى: أنها جماعات عظام.
يقال: فلان يؤبِّل على فلان؛ أي يعظم عليه ويكثر؛ وهو مشتق من الإبل.
واختلف في واحد {أبابيل}؛ فقال الجوهريّ: قال الأخفش يقال: جاءت إبلك أبابيل؛ أي فِرقًا، وطير أبابيل.
قال: وهذا يجيء في معنى التكثير، وهو من الجمع الذي لا واحد له.
وقال بعضهم: واحده إبَّوْل، مثل عِجَّوْل.
وقال بعضهم: وهو المبرّد: إِبِّيل مثل سِكِّين.
قال: ولم أجد العرب تعرِف له واحدًا في غير الصحاح.
وقيل في واحده إبَّال.
وقال رؤبة بن العجاج في الجمع:
ولعبتْ طيرٌ بِهِمْ أَبابيلْ ** فصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ

وقال الأعشى:
طَرِيقٌ وجَبَّارٌ رِواءٌ أُصولُهُ ** علَيهِ أبابيلٌ مِن الطَّيْرِ تَنْعَبُ

وقال آخر:
كادت تُهَدُّ من الأصواتِ راحلَتِي ** إذْ سالتِ الأَرضُ بالجُرْدِ الأَبابيلِ

وقال آخر:
تَراهُمْ إلى الداعي سِرَاعا كأنّهُمْ ** أبابيلُ طَيْر تَحْتَ دَجْنِ مُسَخَّنِ

قال الفرّاء: لا واحد له من لفظه.
وزعم الرؤاسِيّ وكان ثقة أنه سمع في واحدها (إبّالة) مشدّدة. وحكى الفرّاء (إبالة) مخففًا.
قال: سمعت بعض العرب يقول: ضِغْث على إبَّالَة. يريد: خِصبا على خِصب.
قال: ولو قال قائل إيبال كان صوابًا؛ مثل دينار ودنانير.
وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث ابن نوفل: الأبابيل: مأخوذ من الإبل المؤبلة؛ وهي الأقاطيع.
{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)}
في الصحاح: {حِجارة مِن سِجيلٍ} قالوا: حجارة من طين، طبخت بنار جهنم، مكتوب فيها أسماء القوم؛ لقوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً} [الذاريات: 33 34].
وقال عبد الرحمن بن أبزى: {مِن سِجيلٍ}: من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل من الجحيم.
وهي {سِجِّين} ثم أبدلت اللام نونًا؛ كما قالوا في أُصَيْلان أُصيلال.
قال ابن مقبِل:
ضَرْبًا تَواصَتْ به الأبطالُ سِجِّينا

وإنما هو: سِجيلًا.
وقال الزجاج: {مِّن سِجِّيلٍ} أي مما كُتب عليهم أن يُعَذّبوا به؛ مشتق من السجل.
وقد مضى القول في سِجّيل في (هود) مستوفى.
قال عِكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجُدَرِيّ لم يُر قبلَ ذلك اليوم.
وكان الحجر كالحِمصَّة وفوق العدسة.
وقال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نَفِط جلده، فكان ذلك أوّل الجُدرِيّ.
وقراءة العامة {تَرْمِيهِم} بالتاء، لتأنيث جماعة الطير.
وقرأ الأعرج وطلحة {يَرْمِيهم} بالياء؛ أي يرميهم الله؛ دليله قوله تعالى: {ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] ويجوز أن يكون راجعًا إلى الطير، لخلوّها من علامات التأنيث، ولأن تأنيثها غير حقيقيّ.
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل.
شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزائه.
روُي معناه عن ابن زيد وغيره.
وقد مضى القول في العَصْف في سورة (الرحمن).
ومما يدل على أنه ورق الزرع قول علقمة:
تَسْقِي مَذانِبَ قدْ مالتْ عَصِيفَتُها ** حَدُورُها من أَتِيِّ الماءِ مَطْمُوم

وقال رؤبة بن العجاج:
ومَسَّهُمْ ما مَسَّ أصْحابَ الفِيلْ ** تَرْميهِمُ حِجارَةٌ مِنْ سِجِّيل

ولَعِبتْ طَيرٌ بهمْ أَبابيل ** فَصُيِّروا مِثلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ

العَصْف: جمع، واحدته عَصْفة، وعُصافة، وعَصِيفة.
وأدخل الكاف في {كَعَصْف} للتشبيه مع مثل، نحو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
ومعنى {مأكولٍ} مأكول حبه. كما يقال: فلان حسن؛ أي حسن وجهه.
وقال ابن عباس؛ {فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ} أن المراد به قشر البر؛ يعني الغِلاف الذي تكون فيه حبة القمح.
ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة.
وقال ابن مسعود: لما رمت الطير بالحجارة، بعث الله ريحًا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فكانت لا تقع على أحد إلا هلك، ولم يسلم منهم إلا رجل من كِندة؛ فقال:
فَإنّكِ لَوْ رأيتِ ولم تَريهِ ** لدي جنب المُغَمِّس ما لَقِينا

خَشِيتُ الله إذْ قد بَث طَيْرًا ** وظِلَّ سحابةٍ مَرت عَلَينَا

وباتت كلُّها تدعو بِحَقٍّ ** كأن لها على الحُبْشان دَيْنَا

ويروى أنها لم تصبهم كلهم، لكنها أصابت من شاء الله منهم.
وقد تقدّم أن أميرهم رجع وشِرْذمة لطيفة معه، فلما أخبروا بما رأوا هلكوا.
فالله أعلم.
وقال ابن إسحاق: لما ردّ الله الحبشة عن مكة، عَظَّمت العرب قريشًا وقالوا: أَهلُ اللَّهِ، قاتل عنهم، وكفاهم مؤونة عدوّهم؛ فكان ذلك نعمة من الله عليهم. اهـ.